365TOPبرشلونةأخبار365TOP
الأكثر تداولًا

ميسي ويامال.. انعكاس في مرآة الزمن

“كانت لحظةٌ استثنائية تتطلّب صبرًا وفنًّا”، بهذه العبارة يصف المصوّر خوان مونفورت لـ”ذي أثلتيك” محاولاته لالتقاط صورة ما: ليونيل ميسي، الخجول، والذي كان أشدَّ حياءً في تلك الأيام البعيدة، طُلب منه فجأة الوقوف أمام طفلٍ رضيعٍ يستحم في حوض بلاستيكي، وبجواره أمه، في البداية، كان اللقاء محفوفًا بالصمت والتردد، لكن شيئًا فشيئًا، بدأ السحر ينبض بينهم، حتى اكتملت اللوحة في النهاية بصورةٍ تفيضُ براءةً وجمالًا، نعم؛ لقد استطاع مونفورت التقاط صورة تاريخية جمعت بين نجم برشلونة الصاعد آنذاك، ليونيل ميسي، ذو العشرين ربيعًا، ورضيعٍ لم يتجاوز الستة أشهر، اسمه لامين يامال، وقد نُشرت الصورة لاحقًا عام 2008، بمبادرة من جريدة دياريو سبورت الكاتالونية، حيث خُصصت عائدات المشروع لدعم منظمات مثل اليونيسف وجمعيات خيرية أخرى في كاتالونيا.  

“في ذلك الزمن، لم يكن أحد ليجرؤ على تخيل أن هذا الرضيع سيكون النجم الذي نراه اليوم.. تماماً كما لم يخطر ببال أحد أن ميسي نفسه سيتحول إلى الأسطورة التي نعرفها!” 

خوان مونفورت.

في ذلك المشروع الإنساني، وُثِّقت لحظات كثيرة للاعبي الفريق الأول بالنادي برفقة أطفالٍ من العائلات المحلية، ورغم أن ذاكرة الزمن طوت معظم الصور، إلا أن الصدفة وحدها هي من جمعت بين يامال، نجم المستقبل، وبين ليونيل ميسي، الأسطورة التي حصدت الكرة الذهبية ثماني مرات، نعم؛ هي الصدفة، فقط الصدفة، من أنتجت لنا صورةً تظهر ليونيل أندريس ميسي وهو يحمل رضيعًا ملفوفًا بمنشفة، وكأنه يغذيه ويفيض عليه من سحره وبهاءه، ليُذكّرنا هذا الماضي الجميل بمفارقةٍ ساحرة: ذلك الرضيع أصبح نجمًا واعدًا في صفوف برشلونة، وأصغر لاعب يسجل في دوري الأمم الأوروبية، وأصغر لاعب يسجل في بطولة كأس أمم أوروبا، أصغر لاعب يحصد جائزة أفضل لاعب شاب بأمم أوروبا. 

فهل تشكل العلاقة بين ميسي ويامال جسرًا ممتدًا بين الأجيال فتجمع بين لحظات عفوية من الماضي وانجازات عظيمة في الحاضر؟ وهل تظل العلاقة بينهما أيضًا شاهدة على أن بعض اللحظات لا تُلتقط بالكاميرات فقط، بل تنسجها خيوط القدر الذهبية؟ 

ما وراء عدسة الكاميرا 

طبقًا لما قاله البعض، فبعد ست سنوات ونصف فقط من تلك الصورة، بدأ يامال رحلته المنتظمة بالقطار من “روكاندافو” إلى برشلونة، بعدما انضم إلى أكاديمية لاماسيا الشهيرة للنادي الكتالوني، تلك الزاوية الهادئة من العالم، حيث تلتقي أحلام الطفولة بعنفوان الشباب، بدأ يامال مسيرته، ولو أردت أن تصف هذا المكان لفتى في السادسة عشرة من عمره، لقلت له: هنا حيث تبدأ الأساطير، تقع روكافوندا، هذا الحي المتواضع ذو الروح الكبيرة، ضمن نطاق مدينة ماتارو الساحلية التي تبعد عن برشلونة حوالي 40 دقيقة، ورغم قربها من المناطق الغنية، إلا أنها مازالت تحافظ على بساطتها وطبيعتها الشعبية. 

هنا، حيث تلتقي التلال الخضراء بالبحر الفيروزي الذي يتلألأ تحت أشعة الشمس في أكتوبر الدافئ، وحول الملعب البلدي، يتجمع الأطفال وذووهم لمشاهدة فريق الحي للشباب، تحت 17 سنة، بعض المتفرجين يتكئون على القضبان الحديدية المحيطة بالملعب في مشهد يعكس جو كرة القدم الشعبية في إسبانيا بملاعبها البسيطة، المفارقة هنا أن يامال لم يلعب قط على هذه الأرض العشبية، بل بدأ مسيرته على الملعب الخراساني المجاور، الذي يحمل اسم “روكا فوندا”، حيث يلعب عادةً أطفال الحي الفقراء، هنا؛ في تلك الزاوية الهادئة من العالم، التقت أحلام الطفولة بعنفوان الشباب، وبدأ يامال أولى خطواته.  

في كل زاوية من زوايا الحي، يطلّ عليك الرقم “304” مكتوباً بخطوط عشوائية لكنها موحّدة في معناها، تجده على كل شئ حرفيًا: على الجدران، وصناديق القمامة، وحتى الأرصفة المتشققة، إنه بصمة المكان، ورمزه البريدي، الذي يذكر الجميع بأن الفتى الذهبي ما زال يحمل جذوره بين أضلاعه، فعندما احتفل يامال بأول أهدافه مع برشلونة، رفع يديه مبتسماً وأشار بالأصابع إلى هذا الرقم، في رسالة حب صامتة من ابن الحي الوفي، الذي لم تسلخه أضواء الملاعب المبهرة عن بيئته.

حسنا؛ وإن تركت الملعب الصغير إلى جانبك، ومررت عبر الشارع الضيق الملاصق له، حيث تفوح رائحة الخبز الطازج من مخبز عائلي صغير يديره عم يامال، ستجد جدارية ملونة متربعةً على جدار مدخل بيت متهدم، للنجم الصغير مرتدياً قميص برشلونة، ومحاطاً بأعلام ثلاث دول: المغرب (وطن الأب)، وغينيا الاستوائية (وطن الأم)، وإسبانيا (الوطن الذي ولد فيه)، في لوحة تختزل هوية شاب يحمل الأضداد في قلبه. 

داخل المخبز، تتراص المعجنات الذهبية إلى جانب أكياس رقائق البطاطس والمشروبات الغازية، ويقف عبد الله، عم يامال، وابنه مستعدين لاستقبال الزحام المعتاد، نعم؛ فمنذ أن لمع اسم يامال في سماء كامب نو، تحوّل هذا المكان المتواضع إلى محجة للزوار، تفوق شهرته ما يتوقعه أي مقهى في موقع استراتيجي.

انتظر هناك قليلًا فقط، وستجد المكان مغمورًا بضجيج أطفال الحي المتلهفين لشراء وجباتهم الخفيفة المفضلة، ربما بينهم من يحلم بأن يصبح “يامالاً” جديداً، وفجأة، ستظهر الجدة “فاطمة” بين الزحام، امرأة صغيرة في الحجم، كبيرة في الحضور، وعيناها الدافئتان تلمعان بالامتنان لكل من يسأل عن حفيدها، قبل 35 عاماً، كانت تلك المرأة هي الجسر الذي عبرت عليه العائلة من المغرب إلى إسبانيا، جاءت أولاً بمفردها، تحمل أحلاماً أكبر من حقائبها، ثم جلبت أطفالها واحداً تلو الآخر، عبد الله، العم الحاني، يعيش هنا منذ ثلاثة عقود، ويعرف تمامًا كيف تتحول التضحيات إلى بؤر نجاح. 

كانت الجدة فاطمة حاضرةً في كل خطوة من خطوات طفولة حفيدها، مثل ظلٍّ دافئ لا يغيب، تماماً كما كان العم عبدول وأبناؤه الذين نشأوا معاً كشجرة عائلة واحدة متشابكة الجذور، لكن الحياة كتبت منعطفاً جديداً عندما بلغ يامال الثالثة من عمره؛ فبعد انفصال والديه، انتقل ليعيش مع والدته شيلا في حي “لا توريتا” الصغير، ذلك المكان القريب من جرانويرس، المدينة الهادئة شمال ماتارو، في هذا الحي الجديد، حيث تتناثر أحلام الصغار بين الملاعب الترابية.

التقت شيلا، الأم، بمصادفةٍ غيّرت مسار حياتهم جميعاً، فبينما كانت تعمل في سلسلة مطاعم للوجبات السريعة، تعرفت على إينوسينتي دييز، أو “كوبالا” كما كان يُطلق عليه، هذا الرجل، هو أول من لمح شرارة الموهبة في عيني يامال الصغير، فشجع الأم على تسجيله في نادي “لا توريتا” الذي كان يشرف عليه، بالطبع في ذلك العمر، لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل، فصناعة كرة القدم بحرٌ واسع، لكن يبدو أن عصاً سحرية قد لامست الصغير. 

ورغم أن يامال درس في جرانويرس ولعب في لا توريتا، ظلت روكافوندا هي الوطن الذي يعود إليه قلبه،  هناك، بين أزقة الحي وأصدقاء الطفولة وأبناء العمومة، بنى ذكريات لن تمحوها الأيام، حتى عندما انتقل لاحقاً للإقامة في سكن أكاديمية برشلونة للشباب، غرب المدينة، ظلّت جذوره ممتدة إلى ذلك الحي البسيط، “لا توريتا”، حيث لم يكن مجرد نادٍ لكرة القدم فقط، بل كانت عائلة أخرى دعمت يامال وعائلته في الأوقات الصعبة، كما فعلت مع العديد من الأطفال الآخرين، لضمان استمرارهم في ممارسة الرياضة التي يحبونها. 

في عالم كرة القدم، حيث تتنافس الأندية الكبرى على اصطياد المواهب الصغيرة، كانت قصة يامال استثنائية، فبينما كان كشافي المواهب يتجولون في ملاعب أندية الدرجات الدنيا بحثاً عن اللآلئ الخفية، جاءت فرصة يامال من حيث لا يحتسب، ففي يومٍ من الأيام، شاهده أحد اللاعبين من المدرجات، فأسرع بالاتصال بمسؤولي برشلونة وأخبرهم أن عليهم منح هذا الصبي فرصة، لم يحتج الأمر سوى إلى تجربة واحدة فقط، وفي عام 2014، حين كان في السادسة من عمره، بدأ يامال رحلته مع النادي الكتالوني، ليكتب أولى سطور أسطورةٍ جديدة.

فلاش باك

(الفلاش باك): طريقة يستعملها صناع السينما للوصول إلى نقطة معقدة في الحكاية. حسنًا، نحن الآن في مساء الأربعاء 4 أكتوبر 2023، على عشب ملعب دراجاو في بورتو حيث سيخطو برشلونة عليه لأول مرة منذ عقدين من الزمن، في لقاء يربط بين ماضٍ عريق وحاضرٍ واعد، كانت آخر زيارة للفريق الكتالوني لهذا الملعب في 16 نوفمبر 2003، في مباراة ودية بمناسبة الافتتاح الرسمي للملعب، وهو اليوم الذي شهد الظهور الأول لأسطورة كروية شابة تدعى ليونيل ميسي، دخل ميسي، الذي كان يبلغ آنذاك 16 عامًا وأربعة أشهر و23 يومًا، كبديل في الدقيقة 75 أمام فريق بورتو الذي كان يقوده جوزيه مورينيو، والذي سيصبح في نهاية ذلك الموسم بطلًا لدوري أبطال أوروبا، وعلى الرغم من مشاركته المبكرة في تلك المباراة الودية ضد بورتو عام 2003، لم يفرض الأرجنتيني الصغير سيطرته الحقيقية على الفريق إلا بحلول موسم 2005-2006. 

كان ميسي قد بلغ الثامنة عشرة عندما وجد المدرب فرانك ريكارد نفسه أمام موهبة لا يمكن كبحها، بدأ الموسم الهولندي الطموح بأولويات واضحة، إعطاء لودوفيك جولي الفرصة كأساسي، بينما يقتصر دور ميسي الشاب على الدقائق القليلة كبديل، كانت الخطة تبدو مثالية من الناحية التكتيكية: التدرج في صقل الموهبة، وحماية الجسد النحيل من الإجهاد المفرط، وضمان التكيف التدريجي مع متطلبات كرة القدم النخبوية، لكن القدر كان يخبئ مفاجأة، بعد أداء مذهل في كلاسيكو نوفمبر، حيث شارك ميسي أساسياً وساهم في الفوز الساحق 3-0 على ريال مدريد، وجد جولي نفسه فجأة على مقاعد البدلاء، كان التحول صاعقاً حقًا،  من نجم واعد إلى عنصر لا غنى عنه في تشكيلة الفريق، لكن القدر كان يخبئ ما هو  صدمة كبرى: إصابة في الفخذ أبعدته عن 18 مباراة.

ليونيل ميسي - برشلونة
ليونيل ميسي – برشلونة

لكن حتى هذا العائق لم يمنع الأسطورة الصاعدة من العودة والمساهمة في تتويج الفريق بدوري أبطال أوروبا بنهاية الموسم. لقد كانت رحلة مليئة بالدروس – عن الصبر، وعن إدارة المواهب، وعن كيف يمكن للعبقرية الحقيقية أن تكسر كل التوقعات والخطط المسبقة.

واليوم، مع عودة الفريقين للقاء بعضهما في البطولة القارية، يجد برشلونة نفسه مرة أخرى وبعد 20 عامًا، مع نجم مراهق آخر يسرق الأضواء، لامين يامال، الذي ترك بالفعل بصمة لا تمحى في تاريخ النادي منذ ظهوره المبهر، عندما أصبح أصغر لاعب في تاريخ برشلونة بالدوري الإسباني بعمر 15 عامًا و290 يومًا فقط، الآن، وفي ظلال ملعب دراجاو ذاته الذي شهد ميلاد أسطورة ميسي، قد يشهد العالم ميلاد أسطورة جديدة تحمل اسم يامال، التوازي بين القصتين لا يمكن تجاهله: نفس الملعب، نفس البطولة، ونفس النادي الذي يواصل اكتشاف وتنمية أعظم المواهب الكروية في العالم، وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة بوجه جديد وشاب متعطش لكتابة فصله الخاص في سجلات النادي العريق.

فقبل بضعة أشهر فقط، كان المسار المتوقع لليمين يامال واضحاً: موسم آخر من التطور مع برشلونة أتلتيكو، الفريق الرديف، لكن الفتى قرر كتابة سيناريو مختلف تماماً، لقد شارك يامال بالفعل في عشر مباريات كاملة مع الفريق الأول في موسمه الأول، بدأ أربعاً منها في التشكيلة الأساسية، والليلة، على أرضية ملعب دراجاو التاريخي، قد يشهد العالم بدايته الأولى في دوري أبطال أوروبا، في أصعب مواجهة لبرشلونة بدور المجموعات، خاصة وأن النادي الكتالوني قد أعلن عن تجديد عقده لثلاث سنوات أخرى، في خطوة احتفل بها الجميع بعد معركة قانونية شرسة للاحتفاظ به أمام إغراءات عروض الأندية الأوروبية الكبرى، نجاح يامال السريع والمبهر جعل فكرة إعادته للفريق الرديف ضرباً من الخيال، بل تحول السؤال الآن إلى: لماذا لا يبدأ يامال أساسياً في كل المباريات؟

لقد كانت بدايته مثيرة جداً، ففي 23 سبتمبر 2023، كتب يامال أولى صفحاته الملحمية مع الفريق الأول، عندما دخل بديلاً في مباراة سيلتا فيجو على كامب نو، رغم بداية المباراة الكارثية بالتأخر بهدف، إلا أن الفتى الذهبي تحول  إلى بطُل غير متوقع، مساهماً في العودة المذهلة التي انتهت بفوز 3-2 في اللحظات الأخيرة، وبعد ثلاثة أيام فقط، في مايوركا، تحولت مشاركته التي استمرت 27 دقيقة فقط إلى عرض مبهر، حيث أضاء ملعب إيبيروستار بمراوغاته الساحرة وتمريراته العرضية الدقيقة، وكأنه يقدم للجمهور لمحة عن مستقبل كروي باهر، ومنذ ذلك اليوم، ظل برشلونة حذراً في إدارة موهبته، موازناً بين تطوير مهاراته وحمايته من الإجهاد البدني، لكن التأثير الذي أحدثه في المباريات الأخيرة جعل من الصعب إبقاءه خارج التشكيلة الأساسية. 

وأمام إشبيلية بعد أسبوعين فقط من أول مباراة له، اضطر تشافي للبدء به، ورغم أنه لم يقدم أداءه الأفضل، إلا أنه كان حاضراً في اللحظة الحاسمة: عرضيته التي حولها سيرجيو راموس إلى مرماه بقوة حسمت المباراة، وقد علق تشافي بحكمة: “الحد من مشاركته يعود لأسباب بدنية. إنه في السادسة عشرة فقط، وهذا يظهر أحياناً. كرة القدم ليست فقط عندما تكون الكرة عندك، بل تتطلب جهداً دفاعياً كبيراً، خاصة للجناح الشاب”،لكنه أضاف أيضًا بإعجاب: “موهبته لا جدال فيها، ونفسياً، فهو هادئ بشكل استثنائي، يتعامل مع كل شيء ببراءة وثقة تثير الإعجاب”. لكن القدر كان يخبئ أيضًا ما لا يحمد عقباه أيضًا: إصابة مزمنة في الكاحل، فهل سينجو يامال من فخ الإصابات كما نجى ميسي؟ ولكن قبل الحديث ذلك الأمر، تلك نفحة صغيرة من نفحات ليونيل ميسي. 

زوم إن

ربما تساءل مانو سانشيز، ظهير نادي ألافيس الأيسر، في تلك اللحظة، وقال بصوت متهدج: “ما الذي يحدث هنا؟”، فبعد ثلاث دقائق فقط من صافرة البداية في استاد “مونتجويك”، استاد برشلونة البديل، كان لامين يامال، ذلك الشاب الذي كُلف سانشيز بمراقبته طوال 87 دقيقة مقبلة من حياته،  قد نجح في مراوغة أربعة من زملائه ببراعة تذكرنا بأساطير الكرة، (وربما بليونيل ميسي إن أحببنا المجاملة)، ولو عرف سانشيز ما يخبئه القدر، لربما تمنى أن يكون هذا مجرد كابوس عابر، حسنًا، لقد اعتاد الجمهور على الجلوس على حافة مقاعدهم كلما حصل يامال على الكرة، لكن هذه المرة مختلفة، فالعرض الذي استمر لمدة 14 ثانية، جعل جميع الحضور يمسكون رؤوسهم، ويهتفون بصوت واحد، يعلو أكثر فأكثر مع كل مراوغة جديدة، وكأنهم يشهدون ولادة أسطورة جديدة أمام أعينهم، ربما كانت تلك اللحظات القصيرة كافية لتذكير العالم بأن مستقبل الكرة الإسبانية في أيد أمينة.

حسنًا، دعونا نبدأ من البداية: استقبل الفتى الذهبي الكرة في مملكته الخاصة، الجانب الأيمن من الملعب، لكن هذه المرة من عمق نصف ملعب برشلونة.

وفي لمح البصر، كان مانو سانشيز قد التصق به كظله، مستعداً لخنق أي بصيص أمل، لكن يامال بذكاء، أعاد الكرة إلى نقطة انطلاقتها بلمسة خفيفة، وكأنه يعيد شريط الذكريات إلى الوراء، كانت خدعة بسيطة في مظهرها، لكنها حملت في طياتها براعة عازف كمان محترف يقلب أنغامه بين أصابعه، بهذه اللمسة السحرية، خدع أول مراقبيه، تاركاً إياه يتعثر في الفراغ، بينما انطلق هو نحو المجد، حاملاً معه أحلام جمهور كامل على كتفيه الصاعدين.

ثم استلمها مجددًا، فضغط عليه سانشيز مجددًا، وبعد أن نزع عنه دروعه الواقية بحركة كتف خادعة، تلتها مراوغة قاتلة بقدمه اليسرى، وجد نفسه فجأة أمام مدافع جديد، توماس كونيشني، الجناح الأيسر لألافيس، الذي انتصب كالسد المنيع في طريقه، لكن يامال، ببراعة أشبه بساحر يستلّ أرانبًا من قبعته، لم يبدُ عليه أي ارتباك، وكانت عيناه تومضان بشرارة التحدي، في تلك اللحظة، تحوّل الملعب إلى مسرح، والمدافعون إلى مجرد دمى في عرض الأرجوحة الساحر الذي كان يقدمه الفتى. الجمهور الذي كان قد انفجر للتو في هتافات بعد تخطيه سانشيز، حبس أنفاسه مجدداً، متسائلاً: “إلى أي مدى يمكن لهذا السحر أن يستمر؟”. والإجابة كانت قادمة في اللمسات التالية.

وبلمسة ساحرة، استولى على الكرة، ثم انطلق لينساب بين المدافعين كما ينساب النهر بين الصخور. قطع المساحة ببراعة نحو خط الوسط، كل خطوة منه تحمل وعداً، كل حركة تروي قصة موهبة لا تعرف الحدود، الجمهور وقف على أطراف المقاعد، واللاعبون أنفسهم بدوا للحظة وكأنهم مجاذيب في حضور درويش أو ساحر، فلم يكن هناك سوى يامال والكرة فقط، وربما أيضًا حلم جماهير كرة القدم الذي يتحقق أمامهم، حتى الزمن نفسه بدا وكأنه توقف ليسمح للجميع بتذوق هذه اللحظة الفريدة. 

في تلك اللحظة، اعترف سانشيز بهزيمته، وتراجع إلى موقعه كظهير أيسر، لكن كونيتشني العنيد، رفض الاستسلام بسهولة، ولاحق يامال كظلٍ عاصف، ومد يده محاولاً الإمساك بذراعه، في مشهدٍ يذكرنا بصياد يحاول الإمساك بفراشة نادرة.

لكن يامال، بمرونة السحاب ورشاقة الغزال، استمر في انسيابه، تاركاً خلفه محاولات اليأس تلك، أما الجمهور الذي كان قد ارتفع صوته هتافاً عند تخطي سانشيز، عاد ليصمت مبهوراً، يشاهد هذا المشهد الاستثنائي الذي يجسد صراع الأجيال: خبرة المدافع العنيدة في مواجهة براءة الموهبة الطاغية، حتى حكام الخط الجانبي وقفوا مذهولين، وكأنهم يشاهدون عملاً فنياً لا مباراة كرة قدم.

عندما اندفع جون جوريدي من خط الوسط كقذيفة مدفوعة بالأمل، كان يامال قد سبق الجميع بفكرتين وخطوة، لقد تحولت ساحة اللعب إلى لوحة شطرنج، وهو اللاعب الوحيد الذي يعرف الخطوات القادمة، ثم جاء أنطونيو بلانكو كآخر حصن دفاعي، مدفوعاً بيأس جماعته، حاول التدخل، لكن لمسته اليسرى السريعة قطعت الطريق عليه كسكين في الزبد، تاركةً المدافع يتعثر في الفراغ مرةً أخرى. 

بعدها عاد كونيتني كشبح من الماضي، منطلقاً في انزلاق يائس لا يعرف الرحمة، لكن يامال، بعينين ترى ما لا يراه الآخرون، لمح الظل المقبل من زاوية عينه، وفي لمحة خاطفة، نقل الكرة إلى قدمه اليمنى ببراعة ساحر يقلب أوراقه، تاركاً المدافع ينزلق على ظهره كسفينة فقدت شراعها، وكالعادة؛ الجمهور مذهول، حتى حارس المرمى بدا وكأنه تجمد في مكانه. ثلاث حراس، ثلاث محاولات، وثلاث هزائم في مواجهة عبقري واحد لم يتجاوز بعد سن السابعة عشرة. 

حاول جوريدي وبلانكو، كفارسين منهكين في نهاية المعركة، أن يمسكا بأذيال هذا الشبح الذي لا يُقهر، فاندفعا معاً في تزامن يائس، لكن يامال سبقهما بلمسة خفيفة، تاركاً إياهما يتصادمان كدميتين في مسرح العرائس.

وقف أندير جيفارا كحارس أخير، عيناه تتسعان وهو يترقب العاصفة القادمة، لكن يامال، ببصيرة تفوق عمره بكثير، رأى ما لم يره الآخرون: رافينيا ينتشر كشبح في المساحة الشاسعة على الجانب الأيسر، وفي لحظة اتخاذ القرار التي تميز العباقرة عن الموهوبين، اختار يامال أن يكون جماعيًا بدلاً من أن يكون بطلاً فردياً، ومرر تمريرة دقيقة قطعت ملعب مونتجويك، لتصل إلى رافينيا الذي كان ينتظر كصياد خبير. 

الجمهور أطلق زفرات إعجاب مختلطة بدهشة، فحتى عندما يختار يامال عدم الإبهار، ظل مبهرًا، أما جيفارا فوقف مذهولاً، مدركاً أنه نجا من مواجهة ستكلفه الكثير، بينما أثبت الفتى الذهبي مرة أخرى أنه يمتلك حكمة لاعبين مخضرمين، نعم؛ ففي هذه اللحظة، لم يكن الأمر مجرد تمريرة، بل رسالة للعالم: “أستطيع أن أكون ساحراً عندما أريد، وجماعيًا عندما يحتاج الفريق”. هذه الروح هي ما يجعل من يامال ظاهرة حقيقية، وليس مجرد موهبة عابرة.

انطلقت الكرة من قدم رافينيا كصاعقة، لكنها عبرت أمام المرمى كشهاب لامع في ليلة مظلمة، جميلة في مسارها، لكنها في النهاية ضائعة، ارتفعت أنفاس الجمهور المحبوسة في حلقومهم، ثم تحولت إلى آهات مختنقة، بينما التفت يامال مبتسماً، وعلى الرضفة، كان المدرب فليك يهز رأسه بإيجابية، فما شاهده لم يكن مجرد هجوم فاشل، بل تأكيداً على رؤيته: يامال الذي صنع الفرصة من لا شيء، ورافينيا الذي كان في المكان الصحيح وإن أخطأ الهدف، هما خيوط النسيج الذي يحيك به برشلونة مستقبله. 

حتى الجمهور الذي خاب أمله، سرعان ما عاد يصفق بحماس، فهم يشهدون ميلاد كيمياء جديدة بين جيلين من النجوم، ربما الكرة ضائعة اليوم، لكن هذه العلاقة الواعدة بين يامال ورفاقه هي الكنز الحقيقي الذي سيحصدونه في المستقبل.

لمثل ذلك فليعمل العاملون

في عالم كرة القدم حيث تُقاس العبقرية أحياناً بعدد الدقائق على أرض الملعب، يأتي لامين يامال كتحفة فنية نادرة تحتاج إلى حماية خاصة، وكما تتشابه قصة يامال مع ليونيل ميسي من حيث البدايات، تتشابه أيضًا مع قصة إنسو فاتي، ذلك النجم الواعد الذي أطفأت الإصابات المتكررة بريقه المبهر، وربما تظل جرس إنذار لا يمكن تجاهله، فاتي، الذي كان يوماً أعجوبة كامب نو، أصبح الآن مجرد ظل لموهبته السابقة بعد سلسلة من الإصابات القاسية، وهو مصير يجب على برشلونة أن يبذل كل ما في وسعه لتفاديه مع يامال. 

يامال ليس مجرد موهبة عادية، بل هو استثناء نادر يجمع بين براعة المراوغة ورؤية اللعب التي تفوق عمره بكثير، لكن هذه الموهبة الفذّة تأتي في جسد صغير لم يكتمل نموه بعد، مما يجعله عرضة لمخاطر الإجهاد الزائد، والتاريخ يعلمنا أن التعامل مع مثل هذه الكنوز يتطلب حكمة تفوق بكثير مجرد الرغبة في تحقيق نتائج فورية، ففي سعيهم وراء الانتصارات، يجب ألا ينسى مسؤولو النادي أنهم يحملون بين أيديهم مستقبل لاعب يمكن أن يصبح أحد أعظم لاعبي العالم، إذا ما تمت إدارته بحكمة. بالطبع الحل لا يكمن في حرمان يامال من الفرص، بل في إيجاد التوازن الدقيق بين التطور والراحة، كما يجب أن تكون مشاركاته مدروسة بعناية، مع مراعاة فترات التعافي الكافية، تماماً كما فعل فرانك ريكارد مع ميسي الشاب. 

كما أن الاستثمار في فريق طبي متخصص لمراقبة تطوره البدني يمكن أن يكون الفارق بين مسيرة حافلة بالإنجازات وأخرى مليئة بالإحباطات، خاصة وأن اللاعبين مثل يامال وفاتي محيرين للغاية، ففي دراسة قام بها فريق بحثي متميز من جامعة لايبزيغ، ضمّ الخبراء ماتياس و. هوب، ويورغن فرايفالد، وفاديم بارنيكس، وكريستيان باومغارت، حول الخصائص البدنية للاعبي كرة القدم في المرحلة العمرية الحرجة بين 17-21 سنة، وقد جاءت الدراسة تحت عنوان لافت: “قوة العضلات تختلف بين المجموعات السنية المختلفة على عكس قوة التحمل”، حيث كشفت النتائج عن مفارقة مثيرة للاهتمام: بينما تظهر القوة العضلية تبايناً واضحاً بين اللاعبين خلال هذه المرحلة العمرية، تبقى قدرة التحمل العضلي ثابتة نسبياً.

وهذا يعني أن لاعبين مثل لامين يامال، قد يطورون قوة بدنية استثنائية تمكنهم من تسديدات أقوى وقفزات أعلى، لكن ذلك لا ينعكس بالضرورة على قدرتهم على التحمل أو لعب دقائق أكثر، وهو أمر محير للغاية، بل ومستفز للكثير من المدربين، وقد اعتمدت الدراسة على عينة دقيقة من 92 لاعباً شاباً من النخبة الألمانية، خضعوا لسلسلة من الاختبارات البدنية الدقيقة تشمل:

  1.  تدريبات القرفصة (Squats) 
  2. تمارين عضلات الصدر (Bench Press) 
  3. اختبارات الركض السريع المستقيم (Linear Sprint) 
  4. قياسات القفز عكس اتجاه الحركة 
  5. (Counter Movement Jump) 

ولضمان دقة النتائج، قام الباحثون بقياس المقاييس البدنية الأساسية لكل مشارك (مثل الطول، الوزن، نسبة الدهون، والكتلة العضلية) لعزل تأثير هذه العوامل. ما توصلوا إليه كان مثيراً: بينما تتحسن القدرات الانفجارية مع التقدم في العمر، تبقى استجابة العضلات للإجهاد المتكرر محدودة. هذه النتائج قد تفسر ظاهرة الإصابات المتكررة التي يعاني منها لاعبون مثل لامين يامال وبيدري وفاتي، حيث تتعرض عضلات معينة لإجهاد متكرر رغم تطور كتلتها العضلية بشكل عام، وبما أننا قد رأينا كيف يمكن للإصابات أن تحول الأحلام إلى كوابيس، كما حدث مع فاتي.

والآن، أمام النادي فرصة ذهبية لكتابة قصة مختلفة، قائمة على الصبر والحكمة، تضمن أن يصل هذا المارد الصغير إلى كامل إمكاناته دون أن يدفع ثمناً باهظاً في طريق المجد. خاصة وأن يامال، كما امتزج مع ميسي في صورة قديمة تشع بالجمال، وتشابه معه في البدايات والهجرة وطريقة اللعب والأسلوب، قد تشابه معه أيضًا في حكمته المبكرة، باختياره عدم اللعب مرتين هذا الموسم، دليلاً على أنه مدرك تمامًا لحدود جسده الصغير وقدراته، إنها لحظة فارقة في تاريخ برشلونة، حيث تلتقي العبقرية الكروية بالوعي النادر. 

يامال ليس مجرد موهبة استثنائية، بل هو عقل رياضيّ ناضج يحبس الأنفاس، تلك النظرة الحذرة التي يلقيها على مسيرته، ذلك الخوف الصحي من الإفراط، هي بالضبط ما قد ينقذه من مصير لعباقرة كثر سقطوا في طريق الشهرة، وربما تكون هذه الحكمة المبكرة هي الفارق بين أن يصبح مجرد نجم عابر، أو أسطورة تدوم لعقود، والقرار الآن بين يدي النادي: هل سيحمي هذا الكنز الذي وهبه القدر، أم سيتركه فريسة لأطماع الانتصارات السريعة؟

محمود ليالي

كاتب وصحفي رياضي مصري من مواليد 1999، مهتم بالتحليل الرياضي خاصة الكروي، والجوانب الاحصائية والتكتيكية والخططية المتعلقة به، بالإضافة لمساحات الالتماس مع الاجتماع والسياسة والحياة، كتب لعدة مواقع مصرية وعربية مثل الجزيرة نت وميدان ورصيف22 ومواطن وألترا صوت، وشاعر صدر له ديوان "البقايا" عام ٢٠٢٣.