أحدهم طلب أن يدفن بها والآخر ضحى بأوروبا من أجلها.. كيف تأثر المدربون الفرنسيون بسحر إفريقيا؟
قارة إفريقيا هي قارة غنية ليس بالمال والموارد، ولكن بالقصص المثيرة والحكايات الغريبة خاصة في لعبة كرة القدم التي تتميز بها هذه القارة، وعلى وجه التحديد أكثر في واحدة من أعرق بطولاتها على مر التاريخ وهي كأس أمم إفريقيا.
وأيضا هذه القارة السمراء تشتهر بأمر آخر وهي سحرها، ولكن سحرها هذا له شكلان أولهما هو سحر جمالها وطبيعتها الخلابة التي تخطف الأنظار بسبب الغابات والأشجار والمباني وغيرها من الأمور، وثانيهما هو الجانب المظلم منها وهو السحر الأسود ويعتبر من أسوء مظاهر القارة خاصة بسبب استعماله في المباريات والبطولات الإفريقية ولها العديد من القصص الشهيرة.
وقبل أيام قليلة من كأس أمم إفريقيا 2023 في كوت ديفوار، يجب أن نتحدث عن سحر إفريقيا الذي سيطر على المدربين الفرنسيين الذين مروا بها وعلى رأسهم الثنائي الأبرز والأشهر في القارة كلود لو روا وبرونو ميتسو، ومواطنهما هيرفي رينارد الذي يعتبر العامل المشترك بينهما وسنفهم لماذا.
كلود لو روا الرجل الذي ضحى بأوروبا من أجل إفريقيا
سيظل كلود لو روا واحدًا من أشهر المدربين الأجانب الذين مروا على إفريقيا على مدار التاريخ، وبالطبع الجميع يعلم مسيرته الحافلة فقد جاء إلى القارة -ليست المرة الأولى- في 1985 ليتولى تدريب منتخب الكاميرون التي كانت تعتبر نقلة كبيرة له بعد ثلاثة تجارب غير ناجحة في بداية مسيرته التدريبية منذ 1980 رفقة كل من أميان وجرونوبل الفرنسيان من ثم الشباب الإماراتي الذي لم يستمر معه طويلا فقط شهر واحد من يوليو 1985 إلى أغسطس من العام ذاته، وتركه سريعا فور وصول عرض الأسود الغير مروضة وهو في سن الـ 37 عاما.
بالطبع مسيرته الحافلة يعلمها الجميع ويمكن العثور على تفاصيلها بسهولة، فقد تولى تدريب العديد من منتخبات إفريقيا خلال 37 عاما تقريبا داخل القارة السمراء درب خلالها كل من الكاميرون والسنغال والكونغو الديمقراطية وغانا والكونغو وتوجو التي كانت أخر محطاته حيث رحل عنهم في 2021 الماضي، وشارك في 9 نسخ من بطولة كأس أمم إفريقيا، ليصبح بذلك المدرب الوحيد في تاريخ القارة الذي يدرب 6 منتخبات مختلفات في العديد من نسخ البطولة، وحصد لقبا واحدا مع الأسود الغير مروضة في أولى تجاربه وكانت نسخة 1988.
𝗦𝗜𝗫 days left for the #TotalEnergiesAFCON2023 draw 👀
— CAF (@CAF_Online) October 6, 2023
Claude Le Roy is the only manager to coach 𝗦𝗜𝗫 different nations at TotalEnergies AFCON editions 👔 pic.twitter.com/aXnmqYzPz5
وتجربة الكاميرون هي الأولى بالنسبة إلى لو روا كمدربا في إفريقيا ولكنها ليست أول مرة يأتي فيها إلى القارة، فقد جاء من قبل وبالتحديد في 1971 عندما جاء صاحب الـ 23 عاما آنذاك رفقة ناديه أجاكسيو الفرنسي في جولته الإفريقية وهبط في دولة الكونغو، ولم يكن يعلم أنه يوما ما سيأتي إلى هنا مرة أخرى.
وظهر حب لو روا للقارة الإفريقية منذ اللحظة الأولى التي وضع قدمه فيها كمدربا وأتيحت له الفرصة للتعبير عن هذا الحب، ففي المؤتمر الصحفي لتقديمه في منصب المدير الفني للكاميرون 1985، مازح الصحفيين عندما سألوه عن كيفية تعامله مع السحر واصطحاب المشعوذيين مع المنتخب ولكن إجابته هي التي سحرهتم فقد قال “أنا من منطقة بريتاني وهي نفس المنطقة التي ولد فيها مرلين أول ساحر في التاريخ” ليقصد الشخصية الخيالية الشهيرة في العصور الوسطى، وبالفعل بدأ سحره ينتشر في كل القارة وتبادلا السحر.
وبعد فترة طويلة من عمله داخل إفريقيا، كشف لو روا عن سر حبه للقارة في مقابلة صحفية قائلًا: “ولـــدت في عائلة تكـــن حبا كبيرا للقـــارة الأفريقية، كان والداي يحدثاني كثيرا عن هـــذه القارة، وبمجرد أن تلقيت عرض الكاميرون قبلت دون تردد لأنني كنت أريد أن أتعرف عن قرب على هذه القارة”.
وأظهر لو روا بالفعل حبه هو أيضا لقارة إفريقيا في أكثر من مرة، فقد هاجم من قبل جياني إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم في مقابلة على قناة “فرانس 24” الفرنسية، متهما إياه بمحاربة بطولة كأس أمم إفريقيا، وأيضا في مقابلة صحفية أخرى طالب بحصول المدربين الأفارقة على فرصة لتدريب المنتخبات داخل القارة بدلا من المدربين الأجانب.
🔴 INFO : L’ancien sélectionneur des Lions indomptables, Claude Le Roy a été fait chevalier du mérite camerounais.
— CFOOT (@cfootcameroun) January 27, 2022
[Cameroon-Tribune] pic.twitter.com/QeCBb5iAiI
وواحد من المواقف الأخرى البارزة عن بطلنا كانت في 2003 عندما تولى تدريب كامبريدج يونايتد الإنجليزي وكان هناك ثقة كبيرة فيه خاصة من رئيس النادي جاري هاروود الذي أكد أنهم تعاقدوا مع المدرب “الأكثر احتراما في تاريخ أوروبا، إن لم يكن في العالم”، ولكن لم يلتزم لو روا بالشكل الكافي معهم بسبب إرتباطه بعقد مع إحدى القنوات الفرنسية وكان يترك المهمة لمساعديه أكثر ويتدخل ببعض الاستشارات لتخرج التقارير الصحفية الإنجليزية بعد ذلك تؤكد أن المدرب الفرنسي يخطط لتدريب منتخب الكونغو الديمقراطية وهو ما حدث بالفعل في 2004 مع الاحتفاظ باللقب الفخري لمدير كرة القدم بالنادي ولكنه ظهر في مرة واحده ولم يعد بعدها إلى إنجلترا.
وكأنه في كل مرة يخرج فيها لو روا من إفريقيا يحدث له أمرا غير متوقع يعيده له، ففي 2016 انتشرت تقارير صحفية تؤكد الحكم بالحبس على المدرب الفرنسي لمدة عامين، وذلك بسبب اتهامه بالتورط في بعض أمور الاحتيالات التي حدثت في انتقالات نادي راسينج ستراسبورج الذي تولى تدريبه من 1998 إلى 2003، ولكنه أكد أنه لم يكن على علم بأي خطأ في عمليات النقل المعنية.
وهناك الكثير من المواقف التي لا تحصى ولن تكفي السطور للحديث عن قصة حب كلود لو روا للقارة والتي تدل جميعها أنه مسحور بها وبأهلها، وظهر ذلك بوضوح في الظهور الأخير له خلال حوار مع شبكة “أفريك فوت” في عام 2023 المنصرم عن كأس الأمم المقبل وعمله في إفريقيا، وأكد على حبه الكبير لها وانتقاده لما فعله الاحتلال الفرنسي بها، وأن علاقته بالقارة لن تنقطع ابدا بل ويقضي وقته ما بينها وبين البقاء في موطنه الأم ويأتي من وقتا إلى أخر، بل أن إيمانويل ماكرون رئيس دولة فرنسا كان يطلب إصطحابه عند سفره إلى القارة في أي زيارة.
ميتسو الذي أوصى بدفنه في إفريقيا
لم يعمل برونو ميتسو نفس المدة الزمنية التي عملها مواطنه لو روا داخل قارة إفريقيا، فقد درب منتخب السنغال من عام 2000 إلى 2002 فقط وكانت هذه هي المدة التي قضاها -كمدربا- في إفريقيا قبل أن ينتقل إلى العمل في آسيا التي قضى فيها وقتا أطول، ولكن خلال هذه المدة القصيرة في القارة السمراء كتب المدرب الفرنسي قصة لن ينساها أحدا من مشجعي كرة القدم على مر التاريخ.
تمكن ميتسو الذي جاء إلى القارة مثل مواطنه لو روا أيضا كمدربا لا يملك مسيرة قوية ولم يسبق له العمل مع فرق كبيرة، من قيادة منتخب السنغال إلى التأهل للمرة الأولى في تاريخها إلى بطولة كأس العالم 2002 التي أقيمت في كوريا الجنوبية واليابان ومن هنا كانت القصة.
عندما تولى ميتسو تدريب السنغال كان بمثابة تحدي كبير بالنسبة له فقد كان منتخبا ضعيفا في ذلك الوقت، خاصة مع وجود مشكلات عديدة أبرزها اعتزال العديد من نجومه ويتواجد في المركز الأخير وقت وصوله من تصفيات إفريقيا لكأس العالم 2002 في مجموعة قوية جدا بها مصر والجزائر والمغرب وناميبيا، ومثلما نعلم جميعا قلب الفرنسي الوضع وصعد بأسود التيرانجا إلى نهائيات مونديال 2002 -الذي واجه فيه أزمة شهيرة أيضا-، وشاء القدر أن يلعب أول مباراة له في البطولة ضد منتخب بلاده فرنسا ويفوز بهدف مقابل لا شيء.
عندما فجّر منتخب السنغال المفاجأة وفاز على بطل العالم في المباراة الإفتتاحية لكأس العالم 2002 🇸🇳🇫🇷 بقيادة الفرنسي برونو ميتسو pic.twitter.com/TuK40COzoj
— كأس العالم FIFA 🏆 (@fifaworldcup_ar) October 14, 2018
وتسبب هذا الانتصار في تعلق قلب ميتسو أكثر بالقارة الإفريقية التي نصرته ممثلة في السنغال أمام أعين جميع من انتقدوه بل وجعلوه حديث العالم، ووصل بفريقه إلى ربع نهائي مونديال 2002 في إنجاز غير مسبوق ولكن ودع البطولة على يد تركيا، وكان في العام ذاته قد وصل إلى نهائي كأس أمم إفريقيا ولكن خسر على يد الكاميرون بركلات الترجيح.
وجد ميتسو في العمل داخل إفريقيا الجو العام الذي كان يبحث عنه خاصة وأنه كان يتعرض إلى الاضطهاد في فرنسا -التي لم يعد للعمل بها مرة أخرى منذ تجربة السنغال- بسبب مظهره الذي كان يختلف عن المدربين هناك آنذاك، ولكنه وجد أنه يشبه أهل هاتان القاراتان ولاعبيها، وظهر هذا واضحا في تصريحه الذي قاله من قبل لصحيفة “Libération” الفرنسية عام 2002 “القيم الحقيقية في إفريقيا مثل الصداقة والتضامن كانت استثنائية، لا يوجد صداقات زائفةأو أشخاص يخونون، أما في فرنسا، إذا لم يعد اللاعب بحاجة إليك لن يتصل بك”.
وهنا رحل ميتسو عن تدريب السنغال ليخض مجموعة تجارب في آسيا ولكنه ترك قلبه في القارة السمراء، وحقق إنجازات عديدة في القارة الآسيوية أبرزها حصد كأس الخليج 2007 مع منتخب الإمارات، ودوري أبطال آسيا مع العين الإماراتي موسم 2002/2023، وظل هناك حتى 2012 إلى أن التقى في أواخر مسيرته وفي آخر محطاته التدريبية والتي كانت مع الوصل الإماراتي بلاعب من القارة المقربة إلى قلبه وهو النجم المصري محمود عبد الرازق “شيكابالا” نجم الزمالك الحالي، ودعمه المدرب الفرنسي بشكل كبير جدا.
On #BastilleDay (🇫🇷), we pay tribute to legend Bruno Metsu who was the only Frenchman to have lifted the #ACL title (with @alainfcae_en) in 02/03.
— #ACL (@TheAFCCL) July 14, 2019
RIP boss! pic.twitter.com/W9bH1TLchX
ظهر دعم ميتسو وحبه الشديد إلى شيكابالا في تصريحاته لصحيفة “البيان” الإماراتية حيث قال: “شيكابالا لاعب من طينة النجوم الكبار، مثل ميسى وكرستيانو رونالد وواين روني”.
وارتباط ميتسو بقارة إفريقيا وتأثره بسحرها لم يقف عند هذا الحد، بل تزوج من فتاة سنغالية تدعى “فيفيان دييه” وأشهر إسلامه في أبريل 2006 وقرر تغيير اسمه إلى “عبد الكريم ميتسو”، وكانت وصيته أنه عند وفاته يدفن في داكار العاصمة السنغالية، وهو ما حدث بالفعل في 2013 عندما توفي بعد صراع مع مرض السرطان عن يناهز الـ 59 عاما.
رينارد حلقة الوصل وآخر الفرنسيين المسحورين
الفرنسي هيرفي رينارد أيضا من الأسماء البارزة في القارة الإفريقية وكانت بدايته معها لم تختلف كثيرا عن مواطنيه فقد جاء بعد تجارب تدريبية ضعيفة مع أندية مختلفة ولم يكن اسما بارزا، وكان أول منتخب يتولى تدريبه هو زامبيا في 2008 إلى 2010، ثم عمل مع عدة منتخبات أخرى داخل القارة وهم أنجولا وزامبيا وكوت ديفوار والمغرب، وفي المنتصف خاض تجربة مع نادي اتحاد العاصمة الجزائري وسوشو وليل الفرنسيان.
وتفوق رينارد على مواطنيه لو روا وميتسو اللذان سبقاه في الوقوع في سحر القارة، حيث حقق أرقاما مميزة عديدة ولكن الأكبر من ذلك هو حصده كأس أمم إفريقيا مرتين مع زامبيا 2012 وكوت ديفوار في 2015، ليصبح أول مدرب في تاريخ كأس الأمم الإفريقية يستطيع تحقيق اللقب مع منتخبين مختلفين، ولكن ولماذا هو حلقة الوصل؟
2012: زامبيا 🏆🇿🇲
— CAF – عربي (@caf_online_AR) January 2, 2022
2015: كوت ديفوار🏆🇨🇮
هيرفي رينارد أول مدرب في تاريخ كأس الأمم الإفريقية يستطيع تحقيق اللقب مع منتخبين مختلفين ⭐
مباراة لا تنساها له مع الرصاصات النحاسية أو الأفيال 👀#TotalEnergiesAFCON | @Herve_Renard_HR pic.twitter.com/5ANDhoqzUV
من الطرائف أن رينارد في بداية مشواره التدريبي كان مساعدا لـ كلود لو روا مدرب نادي شنجهاي الصيني عام 2002، وفي 2003 عمل في نفس المنصب رفقة نفس المدرب ولكن في كامبريدج يونايتد، بل ورحيل المدرب الفرنسي لتدريب الكونغو الديمقراطية أفسح المجال ليصبح هيرفي المدير الفني للفريق لم تكن تجربة ناجحة ولكنها منحته فرصة خبرة جديدة في مسيرته.
ثم بعد عدة تجارب خاضها وحيدا كان بها الكثير من التخبطات، كان دخول رينارد إلى القارة الإفريقية لأول مرة على يد معلمه مرة أخرى كلود لو روا فقد عمل مساعدا له في فترة تدريبه لمنتخب غانا في 2007، ثم بدأ في خوض تجربته الأولى في هذه القارة منفردا بداية من 2008 مثلما ذكرنا مع زامبيا.
وأيضا مثل لو روا وميتسو، قاد رينارد منتخب المغرب للصعود إلى كأس العالم 2018 في قطر، في إنجاز غير مسبوق في مسيرته كمدرب، التي لم يحقق فيها إنجازت كبرى إلا داخل إفريقيا بالمناسبة، قبل أن يقرر الرحيل إلى السعودية في 2019 وظل معهم دون تحقيق إنجاز كبير، ومن ثم اتخذ قرار مفاجئ بتولي تدريب منتخب فرنسا للسيدات في 2023 ومستمر معهم حتى الآن.
ولكن أظهر رينارد حبه الشديد للقارة السمراء وسحره بها في أكثر من مناسبة وتصريح فقد قال من قبل “أنا أحب ابتسامة الناس في إفريقيا التي تشع من قلب كبير ومقدر، أنا أحب إفريقيا، أنا هنا أشعر بالحرية ولا أعتقد أنني أستطيع أن أنهي حياتي في أي مكان أخر غير هذه القارة”.
بل ومثل مواطنه الذي سبقه في الحديث، تزوج رينارد من فتاة سنغالية مسلمة تدعى “فيفيان دييه”، ومثلما قلت بالضبط زوجة الراحل ميتسو السابقة، فماذا تفعل هذه القارة بعقول المدربين الفرنسيين حقا؟
وتظل إفريقيا منبعًا للمدربين الأجانب أو حتى مواطنيها لإكتشاف أنفسهم، وعلى مستوى الفرنسيين أيضا مر عليها الكثير والكثير بخلاف أبطال قصتنا أمثال هنري ميشيل وألان جيريس وروجيه لومير وغيرهم من الأسماء اللامعة، ولكن سيظل هؤلاء الثلاثة حتى الآن هم أكثر من تأثر بالسحر الإفريقي تاركين خلفهم تاريخ حافل وراسخ في أذهان الجميع في هذه القارة.